أتذكر في نهاية الثمانينيات موضوعاً كنت قد ناقشته مع طلبتي آنذاك حول علاقة الشركات المتعددة الجنسيات بالفساد والرشوة.
جاء الموضوع ضمن مواضيع أخرى مشابهة في كتاب مُقرّر على طلبة كلية التجارة حينها، ومنذ ذلك الوقت وأنا أحاول متابعة ما يُكتَب ويُنشَر عن هذه الشركات، خصوصاً مع صدور عدة كتب تربط بينها وبين قضايا سياسية داخلية تمس شؤون الدول التي تُمارِس فيها تلك الشركات أنشطتها.. حتى إن البعض أصبح يُطلق عليها ويُشبّهها بدول وكيانات سياسية واقتصادية متكاملة.. وإن كانت لا تحمل أعلاماً تُميّزها كالدول.
جاءت بداية مثل هذه الشركات بعد الحرب العالمية الثانية.. لكنها تحوّلت إلى كيانات ضخمة مع بداية عصر العولمة الذي منحها جوازاً فاعلاً للدخول في أي قطاع أو مجال متجاوزة في أحيان كثيرة حدوداً جغرافية وسياسية.
ومع ثورة التكنولوجيا.. زاد نفوذ هذه الشركات، حيث أحكَمَت طوق هيمنتها على العلم والتكنولوجيا مُحقّقة بذلك احتكاراً مطلقاً إلى أبعد الحدود.
المشكلة ليست في نفوذ مثل هذه الشركات وإنما في أن العملية أصبحت اليوم عكسية مع تحَوّل دول عدّة إلى شركات مساهمة تُدار بعقلية مجالس إدارات الشركات وبشكل حوّل شعوباً كثيرة إلى مجرد سِلَع يتم تقييمها في أسواق وبورصات السلع الأخرى، خصوصاً في ظل هيمنة رأس المال بشكل مخيف ألغى معه كل أوجه وسمات الإنسانية الأخرى.
في السنوات الأخيرة أصبح دور الدولة مقتصراً على المحافظة على تراكم رأس المال ومعدّلات الربح.. وتسهيل القروض الخاصة.. وتوزيع الدخول على الشركات.. وأصبحنا نسمع كل يوم عن خطة خمسية وخطة عشرية.. وخطط أخرى تتجاوز ذلك.. جميعها يدور في فلك الآليات الاقتصادية الصرفة.
وسط مثل هذا التيار الجارف من رأس المال وفوائده وفائضه.. لا مكان للتنمية البشرية.. ناهيك عن الثقافية التي أصبحت مجرد شعار للوجاهة يأتي في ذيل خطط التنمية التي تعج بها أدبيات وطروحات الحقبة الراهنة.
الدولة اليوم أصبحت تطرح المال كبديل عن الحرية.. والتسهيلات المالية كتعويض عن غياب الحقوق الاجتماعية والفكرية.. والقروض بدلاً من الديموقراطية والمشاركة السياسية.
للأسف إن نهج الدولة في العالم العربي، خصوصاً في دول الخليج، قد انحرف عن المعايير الأساسية في بناء الدولة.. والتي تشمل إلى جانب الاقتصاد معايير تربوية وثقافية تساهم في بناء أفراد وليس مديري بنوك أو شركات فقط.
لقد غاب وبكل أسف مفهوم التنمية البشرية الحقيقي من أغلب خطط التنمية التي استعرضتها دول الخليج مؤخراً.. ورصَدَت لها تواريخ وسنوات مُحدّدة.. فالتنمية البشرية هي التى تهدف أساساً إلى إجراء تحويل عميق في الحياة الإنسانية بكل مظاهرها بما في ذلك مواجهة التحديات بشتى أنواعها.. وليس التحدي المالي فقط.. فهنالك تحديات بيئية.. وأخرى سياسية.. وفكرية.. وثقافية.. وكلها غابت وبكل أسف من مشاريع وخطط دول الخليج المستقبلية و بلا استثناء.
شخصياً.. لا أفقه في الاقتصاد ولا في دورة رأس المال.. ولا في حركة البورصات صعوداً وهبوطاً.. لكن من الواضح أن ما يحدث في العالم اليوم من تغليب للمال وحركته وسطوته ونفوذه.. قد أصبح طاغياً وبشكل مخيف.. وبصورة أخفت معالم أخرى من ملامح البشر واحتياجاتهم لا تقل أهمية إطلاقاً عن أسواق المال.
من المؤكد ووفقاً لتجارب تاريخية أن بناء الدولة يعتمد على إدراج كل تلك الملامح البشرية من ثقافة وأخلاق وأدب وفن وحرية وفلسفة.. حتى لا يكون البناء باتجاه شكل الشركة أو المؤسسة المالية فقط، فحتماً هنالك فرق بين بناء الدولة وبين تأسيس الشركة!
سعاد فهد المعجل